Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 187]

سورة البقرة
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿187﴾

تفسير الجلالين:

«أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث» بمعنى الإفضاء «إلى نسائكم» بالجماع، نزل نسخا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه «علم الله أنكم كنتم تختانون» تخونون «أنفسكم» بالجماع ليلة الصيام وقع ذلك لعمر وغيره واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فتاب عليكم» قبل توبتكم «وعفا عنكم فالآن» إذ أحل لكم «باشروهن» جامعوهن «وابتغوا» اطلبوا «ما كتب الله لكم» أي أباحه من الجماع أو قدره من الولد «وكلوا واشربوا» الليل كله «حتى يتبيَّن» يظهر «لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» أي الصادق بيان للخيط الأبيض وبيان الأسود محذوف أي من الليل شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد «ثم أتُّموا الصيام» من الفجر «إلى الليل» أي إلى دخوله بغروب الشمس «ولا تباشروهن» أي نساءكم «وأنتم عاكفون» مقيمون بنية الاعتكاف «في المساجد» متعلق بعاكفون نهيٌ لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود «تلك» الأحكام المذكورة «حدود الله» حدَّها لعباده ليقفوا عندها «فلا تقربوها» أبلغ من لا تعتدوها المعبر به في آية أخرى «كذلك» كما بيَّن لكم ما ذكر «يُبيِّن الله آياته للناس لعلهم يتقون» محارمه.

تفسير الشيخ محي الدين:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،

فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .

وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:

إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في

أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.

------------

(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434

تفسير ابن كثير:

هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة . فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة . والرفث هنا هو : الجماع . قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطاوس ، وسالم بن عبد الله ، وعمرو بن دينار والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .

وقوله : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : يعني هن سكن لكم ، وأنتم سكن لهن .

وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن .

وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه ، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان ، لئلا يشق ذلك عليهم ، ويحرجوا ، قال الشاعر

إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا

وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل ، وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك . فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك ! أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) إلى قوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) ففرحوا بها فرحا شديدا .

ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق : سمعت البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء ، رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس .

وقال موسى بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ، ويحل لهم شأن النساء ، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت . قال : " وماذا صنعت ؟ " قال : إني سولت لي نفسي ، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم . فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما كنت خليقا أن تفعل " . فنزل الكتاب : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )

وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة في قول الله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) إلى قوله : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فأنزل الله عند ذلك : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) يعني بالرفث : مجامعة النساء ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) يعني : تجامعون النساء ، وتأكلون وتشربون بعد العشاء ( فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) يعني : جامعوهن ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني : الولد ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فكان ذلك عفوا من الله ورحمة .

وقال هشيم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : قام عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فنزل في عمر : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )

وهكذا رواه شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، به .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام ، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد . فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها ، فقالت : إني قد نمت ! فقال : ما نمت ! ثم وقع بها . وصنع كعب بن مالك مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) [ الآية ] .

وهكذا روي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ، وفي صرمة بن قيس ; فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا .

وقوله : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) قال أبو هريرة ، وابن عباس وأنس ، وشريح القاضي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان ، والحسن البصري ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم : يعني الولد .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني : الجماع .

وقال عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) قال : ليلة القدر . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر قال : قال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم . وقال سعيد عن قتادة : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يقول : ما أحل الله لكم .

وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : ( وابتغوا ) أو : " اتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت : عليك بالقراءة الأولى .

واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله .

وقوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) أباح تعالى الأكل والشرب ، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ورفع اللبس بقوله : ( من الفجر ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : أنزلت : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل ( من الفجر ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : ( من الفجر ) فعلموا أنما يعني : الليل والنهار .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، أخبرني عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقالين ، أحدهما أسود والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما فلا تبين لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت . فقال : " إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل " .

أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عدي . ومعنى قوله : " إن وسادك إذا لعريض " أي : إن كان يسع لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها ، فإنهما بياض النهار وسواد الليل . فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب .

وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا : أخبرنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي قال : أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود ، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا . فلما أصبح قال : يا رسول الله ، جعلت تحت وسادتي . قال : " إن وسادك إذا لعريض ، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " .

وجاء في بعض الألفاظ : إنك لعريض القفا . ففسره بعضهم بالبلادة ، وهو ضعيف . بل يرجع إلى هذا ; لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض ، والله أعلم . ويفسره رواية البخاري أيضا :

حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : " إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين " . ثم قال : " لا بل هو سواد الليل وبياض النهار " .

وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السحور ; لأنه من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ; ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور [ لأنه من باب الرخصة والأخذ بها ] ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " . وفي صحيح مسلم ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السحور أكله بركة ; فلا تدعوه ، ولو أن أحدكم يجرع جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " .

وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ، تشبها بالآكلين . ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ، كما جاء في الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، عن زيد بن ثابت ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا إلى الصلاة . قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية .

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن سالم بن غيلان ، عن سليمان بن أبي عثمان ، عن عدي بن حاتم الحمصي ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور " . وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء المبارك ، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن حذيفة بن اليمان قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع . وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي ، وحمله على أن المراد قرب النهار ، كما قال تعالى : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) [ الطلاق : 2 ] أي : قاربن انقضاء العدة ، فإما إمساك أو ترك للفراق . وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه : أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك . وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر . روي مثل هذا عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين ، منهم : محمد بن علي بن الحسين ، وأبو مجلز ، وإبراهيم النخعي ، وأبو الضحى ، وأبو وائل ، وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عيينة ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد . وإليه ذهب الأعمش ومعمر بن راشد . وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ، ولله الحمد .

وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره ، عن بعضهم : أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها .

قلت : وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم يستقر له قدم عليه ، لمخالفته نص القرآن في قوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " . لفظ البخاري .

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر " . ورواه أبو داود ، والترمذي ولفظهما : " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قشير : سمعت سمرة بن جندب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع الفجر " .

ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سوادة بن حنظلة ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " .

قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عبد الله بن سوادة القشيري ، عن أبيه ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ، لعمود الصبح حتى يستطير " .

ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم يعني بن علية مثله سواء .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا ابن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره أو قال نداء بلال فإن بلالا يؤذن أو [ قال ] ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول هكذا أو هكذا ، حتى يقول هكذا " .

ورواه من وجه آخر عن التيمي ، به .

وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا ، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام " . وهذا مرسل جيد .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين على رؤوس الجبال ، هو الذي يحرم الشراب . قال عطاء : فأما إذا سطع سطوعا في السماء ، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا صلاة ، ولا يفوت به حج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ، حرم الشراب للصيام وفات الحج .

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا روي عن غير واحد من السلف ، رحمهم الله .

مسألة : ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام ، يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل ، وليتم صومه ، ولا حرج عليه . وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة ، رضي الله عنهما ، أنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ، ثم يغتسل ويصوم . وفي حديث أم سلمة عندهما : ثم لا يفطر ولا يقضي . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة : أن رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم " . فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين ، كما ترى وهو في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنن النسائي عنه ، عن أسامة بن زيد ، والفضل بن عباس ولم يرفعه . فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ، ومنهم من ذهب إليه ، ويحكى هذا عن أبي هريرة ، وسالم ، وعطاء ، وهشام بن عروة ، والحسن البصري . ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه ، لحديث عائشة وأم سلمة ، أو مختارا فلا صوم له ، لحديث أبي هريرة . يحكى هذا عن عروة ، وطاوس ، والحسن . ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه ويقضيه وأما النفل فلا يضره . رواه الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم النخعي . وهو رواية عن الحسن البصري أيضا ، ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه .

وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد أيضا ، وأبعد ; إذ لا تاريخ ، بل الظاهر من التاريخ خلافه . ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال " فلا صوم له " لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز . وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا ، كما جاء في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم " .

وعن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " أخرجاه أيضا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا قرة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، عز وجل : إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا " .

ورواه الترمذي من غير وجه ، عن الأوزاعي ، به . وقال : هذا حديث حسن غريب .

وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبيد الله بن إياد ، سمعت إياد بن لقيط قال : سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية ، قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه . وقال : " يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله ، وأتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .

[ وروى الحافظ ابن عساكر ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الملك بن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل يومين وليلة ; فأتاه جبريل فقال : إن الله قد قبل وصالك ، ولا يحل لأحد بعدك ، وذلك بأن الله قال : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فلا صيام بعد الليل ، وأمرني بالوتر قبل الفجر ، وهذا إسناد لا بأس به ، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه ] .

ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ، وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ، ولا يأكل بينهما شيئا . قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا " . قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل . قال : " فإني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " . قال : فلم ينتهوا عن الوصال ، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الهلال لزدتكم " كالمنكل بهم .

وأخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري به . وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر .

وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل . قال : " إني لست كهيئتكم ، إني يطعمني ربي ويسقيني " .

فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا ، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ، ولكن كما قال الشاعر :

لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد

وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله . قال : " إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني ، وساق يسقيني " . أخرجاه في الصحيحين أيضا .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص ، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة : أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر ، فدعاها إلى الطعام . فقالت : إني صائمة . قال : وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أين أنت من وصال آل محمد ، من السحر إلى السحر " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن محمد بن علي ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر .

وقد روى ابن جرير ، عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة [ وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ] وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم ، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة . والله أعلم . ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد ، [ أي ] من باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : " رحمة لهم " ، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه . وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا . وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم . وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .

وقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه .

وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ، جامع إن شاء ، فقال الله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) أي : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره . وكذا قال مجاهد ، وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، قالوا : لا يقربها وهو معتكف . وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ، من قضاء الغائط ، أو أكل ، وليس له أن يقبل امرأته ، ولا يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ، ولا يعود المريض ، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه .

وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ، ومنها ما هو مختلف فيه . وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ، ولله الحمد .

ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف ، اقتداء بالقرآن العظيم ، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم . وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام ، أو في آخر شهر الصيام ، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان ، حتى توفاه الله ، عز وجل . ثم اعتكف أزواجه من بعده . أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا وفي رواية : تواريا أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " أي : لا تسرعا ، واعلما أنها صفية بنت حيي ، أي : زوجتي . فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " أو قال : " شرا " .

قال الشافعي ، رحمه الله : أراد ، عليه السلام ، أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا . والله أعلم .

ثم المراد بالمباشرة : إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ، ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ; فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .

وقوله : ( تلك حدود الله ) أي : هذا الذي بيناه ، وفرضناه ، وحددناه من الصيام ، وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرمنا ، وذكر غاياته ورخصه وعزائمه ، حدود الله ، أي : شرعها الله وبينها بنفسه ( فلا تقربوها ) أي : لا تجاوزوها ، وتعتدوها .

وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) أي : المباشرة في الاعتكاف .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني هذه الحدود الأربعة ، ويقرأ ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) حتى بلغ : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) قال : وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا .

( كذلك يبين الله آياته للناس ) أي : كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( للناس لعلهم يتقون ) أي : يعرفون كيف يهتدون ، وكيف يطيعون كما قال تعالى : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور [ وإن الله بكم لرءوف رحيم ) ] . [ الحديد : 9 ] .


تفسير الطبري :

فيه ست وثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {أحل لكم} لفظ {أحل} يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخّن لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}. وروى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}. وفي البخاري أيضا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللّه تعالى: {علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى اللّه فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري : أن عمر رضي اللّه تعالى عنه رجع من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت، فقال لها : ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : أعتذر إلى اللّه وإليك، فإن نفسي زيّنت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي : (لم تكن حقيقا يا عمر) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت {علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن} الآية. الثانية: قوله تعالى: {ليلة الصيام الرفث} ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت. والرفث : كناية عن الجماع لأن اللّه عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقال الأزهري أيضا. وقال ابن عرفة : الرفث ههنا الجماع. والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به. قال الشاعر : ويرين من أنس الحديث زوانيا ** وبهن عن رفث الرجال نفار وقيل : الرفث أصله قول الفحش، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر : ورب أسراب حجيج كظم ** عن اللغا ورفث التكلم وتعدى {الرفث} بإلى في قوله تعالى جده {الرفث إلى نسائكم}. وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله{وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء : 21]. ومن هذا المعنى {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة : 14] كما تقدم. وقوله{يوم يحمى عليها} [التوبة : 35] أي يوقد، لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار، وسيأتي، ومنه قوله{فليحذر الذين يخالفون عن أمره،} [النور : 63] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول : خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى {وكان بالمؤمنين رحيما} [الأحزاب : 43] حمل على معنى رؤوف في نحو {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة : 128]، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي : حملت به في ليلة مزءودة ** كرها وعقد نطاقها لم يحلل عدى حملت بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل{حملته أمه كرها ووضعته كرها} [الأحقاف : 15]، ولكنه قال : حملت به، لأنه في معنى حبلت به. الثالثة: قوله تعالى {هن لباس لكم} ابتداء وخبر، وشددت النون من {هن} لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. {وأنتم لباس لهن} أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي : إذا ما الضجيع ثنى جيدها ** تداعت فكانت عليه لباسا وقال أيضا : لبست أناسا فأفنيتهم ** وأفنيت بعد أناس أناسا وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب : ألا أبلغ أبا حفص رسولا ** فدى لك من أخي ثقة إزاري قال أبو عبيد : أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع : هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد : أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض. الرابعة: قوله تعالى{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى{تقتلون أنفسكم} [البقرة:85] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله{فتاب عليكم} يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر - التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى{علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل : 20] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ{فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} [النساء :92] يعني تخفيفا، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة : 117] وإن لم يكن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يوجب التوبة منه. وقوله {وعفا عنكم} يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه) يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى {علم اللّه} أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة {فتاب عليكم} بعد ما وقع، أي خفف عنكم {وعفا} أي سهل. و{تختانون} من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي اللّه عنه فجعلها اللّه تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الأمة فرضي اللّه عنه وأرضاه. قوله تعالى{فالآن باشروهن} كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي : وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي اللّه عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله. الخامسة: قوله تعالى {وابتغوا ما كتب الله لكم} قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله {فالآن باشروهن}. وقال ابن عباس : ما كتب اللّه لنا هو القرآن. الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية : وهو قول حسن. وقيل {ابتغوا ما كتب اللّه لكم} من الإماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة {واتبعوا} من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح {ابتغوا} من الابتغاء. السادسة: قوله تعالى {وكلوا واشربوا} هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم. السابعة: قوله تعالى {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} {حتى} غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبيّنه يجب الإمساك، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا). وحكاه حماد بيديه قال : يعني معترضا. وفي حديث ابن مسعود : (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه). و روى الدارقطني عن عبدالرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبيّنه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال. وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. و روى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي اللّه قال : (كلوا وأشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر). قال الدارقطني : قيس بن طلق ليس بالقوي. وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله : (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك، وقوله {أياما معدودات}[البقرة : 184]. و روى الدارقطني عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له). تفرد به عبدالله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له). رفعه عبدالله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وهي: الثامنة: وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز و روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعد {من الفجر} فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول اللّه، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال : (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار). أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر : الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ** والخيط الأسود جنح الليل مكتوم والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الإيادي : فلما أضاءت لنا سدفة ** ولاح من الصبح خيط أنارا وقال آخر : قد كاد يبدو وبدت تباشره ** وسدف الليل البهيم ساتره وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم : انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب : ترى السرحان مفترشا يديه ** كأن بياض لبته صديع وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال : إذا ما الليل كان الصبح فيه ** أشق كمفرق الرأس الدهين ويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر : فوردت قبل انبلاج الفجر ** وابن ذكاء كامن في كفر التاسعة: قوله تعالى{ثم أتموا الصيام إلى الليل} جعل اللّه جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا) الحديث. وبهذا قال الشعبي. وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال : جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول اللّه قال : (وما أهلكك) قال : وقعت على امرأتي في رمضان...) الحديث. وفيه ذكر الكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لأن مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول : ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر. العاشرة: واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج. وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك : عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه. الحادية عشرة: واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال : مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبدالملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر : لا شيء عليه. الثانية عشرة: قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطّره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر : وبه نقول. وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه. قلت : وهو الصحيح، وبه قال الجمهور : إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن اللّه أطعمه وسقاه). أخرجه الدارقطني. وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبدالله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان، قال : ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبدالله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك. وقال ابن المنذر : لا شيء عليه، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : (يتم صومه) وإذا قال (يتم صومه) فأتمه فهو صوم تام كامل. قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - واللّه أعلم - كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى{ثم أتموا الصيام إلى الليل} وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صلى الله عليه وسلم : (لا قضاء عليه) قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة) أخرجه الدارقطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال. الثالثةعشرة: لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا - واللّه أعلم - خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبدالله بن مسعود وعروة بن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال : ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم. وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل، ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فُقْدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك. قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة. قال الباجي : وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، واللّه أعلم. وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي : وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة. الرابعة عشرة: والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح. قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره. وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : واللّه ما أنا قلته، محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض. قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي اللّه عنها وأم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى{فالآن باشروهن} الآية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه. وقال المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع، والأول أصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا. الخامسةعشرة: واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال عبدالملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبدالملك. وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال. وذكر ابن الجلاب عن عبدالملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض. وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي، مثل قول الأوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء. السادسة عشرة: وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها. السابعة عشرة: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال {أفطر الحاجم والمحجوم}. من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج. وقال مالك والشافعي والثوري : لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال لا، إلا من أجل الضعف. وقال أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (احتجم صائما محرما) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى اللّه عليه وسلم مرّ عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال : (أفطر الحاجم والمحجوم). واحتجم هو صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان، لأنه توفي في ربيع الأول، صلى اللّه عليه وسلم. الثامنة عشرة: قوله تعالى{ثم أتموا الصيام إلى الليل} أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف. و{إلى} غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها داخل في حكمه، كقولك : اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار. التاسعة عشرة: ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء. وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقيل : عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا. قلت : هذا حسن. الموَفّية عشرين: قوله تعالى{إلى الليل} إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم : (إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم). وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى، لأنه مقتضى الكتاب والسنة. الحادية والعشرون: فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء، قال : لا بد من قضاء؟. قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول اللّه تعالى{إلى الليل} يرد هذا القول، واللّه أعلم. الثانية والعشرون: فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري : وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه. الثالثةوالعشرون: قوله تعالى{إلى الليل} فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال : وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلى اللّه عليه وسلم : (إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم) خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : (لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس : (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم). خرجه مسلم أيضا. وقال صلى اللّه عليه وسلم : (إياكم والوصال إياكم والوصال) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلى اللّه عليه وسلم : (إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) قالوا : فإنك تواصل يا رسول اللّه؟ قال : (لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني). قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : (لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم. قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة : أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمّقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : (أطعم وأسقى) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلى اللّه عليه وسلم : (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به، فكان تركه أولى. وباللّه التوفيق. الرابعة والعشرون: ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس : قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال : (لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم). وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر : (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه). خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجة عن عبدالله بن الزبيرقال : أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة). وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا). وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد). قال ابن أبي مليكة : سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : (للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصوم ) الخامسة والعشرون: ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر) هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة). رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف. السادسة والعشرون: قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم. السابعة والعشرون : قوله تعالى {وأنتم عاكفون} جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة : الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز : عكف النبيط يلعبون الفنزجا وقال الشاعر : وظل بنات الليل حولي عكفا ** عكوف البواكي بينهن صريع ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه. الثامنة والعشرون: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول اللّه تعالى: {في المساجد} واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما‏.‏ وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن الضحاك‏"‏عن حذيفة قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ والضحاك لم يسمع من حذيفة‏.‏ التاسعة والعشرون: وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال‏:‏ لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم‏.‏ وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة‏.‏ وقال سحنون‏:‏ من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه، كما قال سحنون‏.‏ قال الشافعي‏:‏ عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما‏.‏ قال الشافعي‏:‏ أقله لحظة ولا حد لأكثره‏.‏ وقال بعض أصحاب أبي حنيفة‏:‏ يصح الاعتكاف ساعة‏.‏ وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي‏.‏ واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره‏.‏ ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه‏.‏ ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل في اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر‏:‏ لا يصح إلا بصوم‏.‏ وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم‏.‏ وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر‏:‏ لا اعتكاف إلا بصيام، لقول اللّه تعالى في كتابه‏: {‏وكلوا واشربوا}‏ إلى قوله: ‏{‏في المساجد‏}‏ وقالا‏:‏ فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام‏.‏ قال يحيى قال مالك‏:‏ وعلى ذلك الأمر عندنا‏.‏ واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏اعتكف وصم‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه أبو داود‏"‏‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف‏.‏ وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا اعتكاف إلا بصيام‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة‏.‏ وقالوا‏:‏ ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها‏.‏ الموافيه ثلاثين: وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه، لما ‏"‏روى الأئمة عن عائشة‏"‏قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏)‏ تريد الغائط والبول‏.‏ ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه‏.‏ ومن الضرورة المرض البين والحيض‏.‏ واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة‏.‏ وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي‏:‏ يعود المريض ويشهد الجنائز، وروي عن علي وليس بثابت عنه‏.‏ وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب‏:‏ لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع‏:‏ يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه‏.‏ واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة وقال مرة‏:‏ أرجو ألا يكون به بأس‏.‏ وقال الأوزاعي كما قال مالك‏:‏ لا يكون في الاعتكاف شرط‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له‏.‏ الحادية والثلاثون: واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة‏:‏ يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه‏.‏ ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر‏.‏ ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع‏.‏ وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه‏.‏ وقال عبد الملك‏:‏ يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه‏.‏ قلت‏:‏ وهو صحيح لقوله تعالى: ‏{‏وأنتم عاكفون في المساجد‏} فعم‏.‏ وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان‏.‏ الثانية والثلاثون: المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة‏.‏ قاله ابن خويزمنداد عن مالك‏.‏ الثالثة والثلاثون: ‏"‏روى مسلم عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس‏.‏ وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم‏:‏ إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم‏.‏ قال مالك‏:‏ وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر‏.‏ وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبد الملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله في الشهر‏.‏ وقال الليث في أحد قوليه وزفر‏:‏ يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء‏.‏ وروي مثل ذلك عن أبي يوسف، وبه قال القاضي عبد الوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم‏.‏ فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل‏.‏ قلت‏:‏ وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته‏.‏ الرابعة والثلاثون: استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد‏.‏ وقال الشافعي والأوزاعي‏:‏ يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان‏.‏ وقال سحنون‏:‏ إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف‏.‏ فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف الل

التفسير الميسّر:

أباح الله لكم في ليالي شهر رمضان جماعَ نسائكم، هنَّ ستر وحفظ لكم، وأنتم ستر وحفظ لهن. علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم؛ بمخالفة ما حرَّمه الله عليكم من مجامعة النساء بعد العشاء في ليالي الصيام -وكان ذلك في أول الإسلام-، فتاب الله عليكم ووسَّع لكم في الأمر، فالآن جامعوهن، واطلبوا ما قدَّره الله لكم من الأولاد، وكلوا واشربوا حتى يتبَيَّن ضياء الصباح من سواد الليل، بظهور الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات إلى دخول الليل بغروب الشمس. ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهن إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف (وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى). تلك الأحكام التي شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تقربوها حتى لا تقعوا في الحرام. بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس؛ كي يتقوه ويخشَوْه.

تفسير السعدي

كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به. { فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون. { فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك. { وابتغوا ما كتب الله لكم } أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح. ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك. { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه. وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد. وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق. { ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي: الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد. ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس. وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف. { تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: { فلا تقربوها } أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها " لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه. والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها. { كذلك } أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح. { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.


تفسير البغوي

قوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) فالرفث كناية عن الجماع قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء ، والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه : .

( أحل لكم ) أي أبيح لكم ( ليلة الصيام ) أي في ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم ) أي سكن لكم ( وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن دليله قوله تعالى : " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " ( 189 - الأعراف ) وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن قال أبو عبيدة وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث : من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه . . . "

( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "

( فتاب عليكم ) تجاوز عنكم ( وعفا عنكم ) محا ذنوبكم ( فالآن باشروهن ) جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي فاطلبوا ما قضى الله لكم وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد قاله أكثر المفسرين قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ وقال معاذ بن جبل : وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدر

قوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحا فذكر له ما له فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) يعني بياض النهار من سواد الليل سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعده ( من الفجر ) فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهار

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " قال كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد ويوسف بن عيسى قالا أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق " .

قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .

قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) [ وقد نويتم الاعتكاف في المساجد وليس المراد عن مباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده " والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي كما لا يبطل به الحج وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان " .

قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف حدود الله أي ما منع الله عنها قال السدي : شروط الله وقال شهر بن حوشب : فرائض الله وأصل الحد في اللغة المنع ومنه يقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحدود الله ما منع الناس من مخالفتها ( فلا تقربوها ) فلا تأتوها ( كذلك ) هكذا ( يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) لكي يتقوها فينجوا من العذاب


الإعراب:

(أُحِلَّ) فعل ماض مبني للمجهول.

(لَكُمْ) متعلقان بأحل.

(لَيْلَةَ) ظرف زمان متعلق بالفعل قبله وقال بعضهم غير ذلك.

(الصِّيامِ) مضاف إليه.

(الرَّفَثُ) نائب فاعل.

(إِلى نِسائِكُمْ) متعلقان بمحذوف حال.

(هُنَّ لِباسٌ) مبتدأ وخبره الجملة مستأنفة.

(لَكُمْ) متعلقان بمحذوف صفة لباس، والجملة تفسيرية لا محل لها.

(وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) تعرب كإعراب سابقتها وهي معطوفة عليها.

(عَلِمَ اللَّهُ) فعل ماض ولفظ الجلالة فاعل.

(أَنَّكُمْ) أن واسمها.

(كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص والتاء اسمها والجملة في محل رفع خبر أن.

(تَخْتانُونَ) فعل مضارع والواو فاعل.

(أَنْفُسَكُمْ) مفعول به والجملة خبر كان، وإن وما بعدها سد سد مفعولي علم.

(فَتابَ) الفاء عاطفة تاب فعل ماض والفاعل هو يعود إلى اللّه.

(عَلَيْكُمْ) متعلقان بتاب.

(وَعَفا عَنْكُمْ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جملة تاب المعطوفة على جملة محذوفة مقدرة أي فتبتم فتاب عليكم.

(فَالْآنَ) الفاء حرف استئناف الآن ظرف زمان متعلق بباشروهن.

(بَاشِرُوهُنَّ) فعل أمر والواو فاعل هن مفعول به.

(وَابْتَغُوا) مثل باشروا عطف.

(ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به.

(كَتَبَ اللَّهُ) فعل ماض ولفظ الجلالة فاعل.

(لَكُمْ) متعلقان بكتب والجملة صلة الموصول.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فعلا أمر وفاعلاهما والجملتان عطف على ما قبلهما.

(حَتَّى) حرف غاية وجر.

(يَتَبَيَّنَ) فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد حتى والمصدر المؤول في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلقان بكلوا.

(لَكُمْ) متعلقان بالفعل قبلهما.

(الْخَيْطُ) فاعل.

(الْأَبْيَضُ) صفة.

(مِنَ الْخَيْطِ) متعلقان بتبين أو بمحذوف حال من الخيط.

(الْأَسْوَدِ) صفة.

(مِنَ الْفَجْرِ) متعلقان بمحذوف حال من الخيط الأبيض.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على ما قبلها.

(إِلَى اللَّيْلِ) جار ومجرور متعلقان بأتموا.

(وَلا) الواو عاطفة لا ناهية جازمة.

(تُبَاشِرُوهُنَّ) فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل هن مفعول به والجملة معطوفة.

(وَأَنْتُمْ) الواو حالية أنتم مبتدأ.

(عاكِفُونَ) خبره.

(فِي الْمَساجِدِ) متعلقان بعاكفون والجملة حالية.

(تِلْكَ) اسم إشارة مبتدأ.

(حُدُودُ) خبره.

(اللَّهُ) لفظ الجلالة مضاف إليه والجملة استئنافية.

(فَلا) الفاء هي الفصيحة لا ناهية جازمة.

(تَقْرَبُوها) فعل مضارع مجزوم بحذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به.

(كَذلِكَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق.

(يُبَيِّنُ اللَّهُ) فعل مضارع ولفظ الجلالة فاعله.

(آياتِهِ) مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.

(لِلنَّاسِ) متعلقان بيبين والجملة استئنافية.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لعل واسمها وجملة خبرها والجملة الاسمية تعليلية.

---

Traslation and Transliteration:

Ohilla lakum laylata alssiyami alrrafathu ila nisaikum hunna libasun lakum waantum libasun lahunna AAalima Allahu annakum kuntum takhtanoona anfusakum fataba AAalaykum waAAafa AAankum faalana bashiroohunna waibtaghoo ma kataba Allahu lakum wakuloo waishraboo hatta yatabayyana lakumu alkhaytu alabyadu mina alkhayti alaswadi mina alfajri thumma atimmoo alssiyama ila allayli wala tubashiroohunna waantum AAakifoona fee almasajidi tilka hudoodu Allahi fala taqrabooha kathalika yubayyinu Allahu ayatihi lilnnasi laAAallahum yattaqoona

بيانات السورة

اسم السورة سورة البقرة (Al-Baqara - The Cow)
ترتيبها 2
عدد آياتها 286
عدد كلماتها 6144
عدد حروفها 25613
معنى اسمها (البَقَرَةُ) مِنْ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الأَنعَامِ، وهِيَ: (الإِبِلُ والبَقَرُ وَالغَنَمُ)
سبب تسميتها انفِرَادُ السُّورَةِ بذِكْرِ قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى المَقصِدِ العَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (البَقَرَةِ)، وتُلقَّبُ بِـ(سَنَامِ القُرْآنِ)، و(فُسْطَاطِ القُرْآنِ)، وَ(الزَّهْرَاءِ)
مقاصدها الاسْتِجَابَةُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَالامْتِثَالُ الكَامِلُ لَهُ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنْقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها بَرَكَةٌ عَجِيبَةٌ لِقَارِئِهَا، قَالَ ﷺ: «اقْرَؤُوا البَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخذَها بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). عِلَاجٌ مِنَ السِّحْرِ وَالْعَينِ وَالحَسَدِ، قَالَ ﷺ: «وَلَا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ؛ أَيِ: السَّحَرَةُ». (رَوَاهُ مُسْلِم). طَارِدَةٌ لِلشَّيَاطِينِ، قَالَ ﷺ: «وَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي تُقرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ لَا يدخُلُهُ شَيطَانٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَن أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ منَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم. (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (البَقَرَةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ﴾ ... الآيَاتِ، وقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ﴾... الآيَاتِ.. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (البَقَرَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الفَاتِحَةِ): لَمَّا قَالَ العَبْدُ فِي خِتَامِ (الفَاتِحَةِ): ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦﴾. قِيلَ لَهُ فِي فَاتِحَةِ (البَقَرَةِ): ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢﴾ هُوَ مَطْلُوبُكَ وَفِيهِ حَاجَتُكَ.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!