المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 152]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
فقال : ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) .
قال مجاهد في قوله : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) يقول : كما فعلت فاذكروني .
قال عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعيد ، عن زيد بن أسلم : أن موسى ، عليه السلام ، قال : يا رب ، كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرني ولا تنساني ، فإذا ذكرتني فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني .
وقال الحسن البصري ، وأبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، إن الله يذكر من ذكره ، ويزيد من شكره ويعذب من كفره .
وقال بعض السلف في قوله تعالى : ( اتقوا الله حق تقاته ) [ آل عمران : 102 ] قال : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عمارة الصيدلاني ، حدثنا مكحول الأزدي قال : قلت لابن عمر : أرأيت قاتل النفس ، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله ، وقد قال الله تعالى : ( فاذكروني أذكركم ) ؟ قال : إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته ، حتى يسكت .
وقال الحسن البصري في قوله : ( فاذكروني أذكركم ) قال : اذكروني ، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي .
وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية : برحمتي .
وعن ابن عباس في قوله ( فاذكروني أذكركم ) قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
وفي الحديث الصحيح : " يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك ، في ملأ من الملائكة أو قال : [ في ] ملأ خير منهم ، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول "
صحيح الإسناد : أخرجه البخاري من حديث قتادة . وعنده قال قتادة : الله أقرب بالرحمة .
وقوله تعالى : ( واشكروا لي ولا تكفرون ) أمر الله تعالى بشكره ، ووعده على شكره بمزيد الخير ، فقال : ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) [ إبراهيم : 7 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن الفضيل بن فضالة رجل من قيس حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه " . وقال روح مرة : " على عبده " .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } فأمر تعالى بذكره, ووعد عليه أفضل جزاء, وهو ذكره لمن ذكره, كما قال تعالى على لسان رسوله: { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم } وذكر الله تعالى, أفضله, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته, وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر, فلهذا أمر به خصوصا, ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: { وَاشْكُرُوا لِي } أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب, إقرارا بالنعم, واعترافا, وباللسان, ذكرا وثناء, وبالجوارح, طاعة لله وانقيادا لأمره, واجتنابا لنهيه, فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية, من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال, بيان أنها أكبر النعم, بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم, إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل, أن يشكروا الله على ذلك, ليزيدهم من فضله, وليندفع عنهم الإعجاب, فيشتغلوا بالشكر. ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال: { وَلَا تَكْفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النعم وجحدها, وعدم القيام بها، ويحتمل أن يكون المعنى عاما, فيكون الكفر أنواعا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.
تفسير البغوي
{فاذكروني أذكركم} قال ابن عباس: "اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي"، وقال سعيد بن جبير: "اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء"، بيانه {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} [144-الصافات].
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمر بن حفص أخبرنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح عن أبي هريرة قال قال: النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي وثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا أبو عبد الملك الدمشقي أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرنا منذر بن زياد عن صخر بن جويرية عن الحسن عن أنس قال: إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أناملي هذه العشر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن مشيت إلي هرولت إليك، وإن هرولت إلي سعيت إليك، وإن سألتني أعطيتك، وإن لم تسألني غضبت عليك".
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن عبد الله أخبرنا الأوزاعي أخبرنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي الدرداء عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه".
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا إسماعيل بن عياش أخبرنا عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله تعالى".
قوله تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون} يعني واشكروا لي بالطاعة ولا تكفروني بالمعصية فإن من أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفره.
الإعراب:
(فَاذْكُرُونِي) الفاء هي الفصيحة اذكروني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة جواب شرط غير جازم لا محل لها.
(أَذْكُرْكُمْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل أنا والكاف مفعول به والجملة لا محل لها.
(وَاشْكُرُوا) الواو عاطفة اشكروا مثل اذكروا السابقة.
(لِي) جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما والجملة معطوفة.
(وَلا) الواو عاطفة لا ناهية جازمة.
(تَكْفُرُونِ) فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة في محل نصب مفعول به والجملة معطوفة على ما قبلها.