المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 106]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ما ننسخ من آية ) ما نبدل من آية .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : ( ما ننسخ من آية ) أي : ما نمح من آية .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما ننسخ من آية ) قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، ومحمد بن كعب القرظي ، نحو ذلك .
وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية ) ما ننسك . وقال عطاء : أما ( ما ننسخ ) فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم : يعني : ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال السدي : ( ما ننسخ من آية ) نسخها : قبضها . وقال ابن أبي حاتم : يعني : قبضها : رفعها ، مثل قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . وقوله : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا " .
وقال ابن جرير : ( ما ننسخ من آية ) ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا ، والمحظور مباحا . ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة . فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبادة إلى غيرها . وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب ; لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ، ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر . فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل ، وعكسه ، والنسخ لا إلى بدل . وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فن أصول الفقه .
وقال الطبراني : حدثنا أبو شبيل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرءان بها ، فقاما ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها مما نسخ وأنسي ، فالهوا عنها " . فكان الزهري يقرؤها : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) بضم النون خفيفة . سليمان بن أرقم ضعيف .
[ وقد روى أبو بكر بن الأنباري ، عن أبيه ، عن نصر بن داود ، عن أبي عبيد ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس وعبيد وعقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا ، ذكره القرطبي ] .
وقوله تعالى : ( أو ننسها ) فقرئ على وجهين : " ننسأها وننسها " . فأما من قرأها : " ننسأها " بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه : نؤخرها . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ما ننسخ من آية أو ننسئها ) يقول : ما نبدل من آية ، أو نتركها لا نبدلها .
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : ( أو ننسئها ) نثبت خطها ونبدل حكمها . وقال عبيد بن عمير ، ومجاهد ، وعطاء : ( أو ننسئها ) نؤخرها ونرجئها . وقال عطية العوفي : ( أو ننسئها ) نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا [ قال ] الربيع بن أنس . وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسئها ) يعني : الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسئها ) أي : نؤخرها عندنا .
وقال ابن حاتم : حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي ، حدثنا خلف ، حدثنا الخفاف ، عن إسماعيل يعني ابن مسلم عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
خطبنا عمر ، رضي الله عنه ، فقال : يقول الله عز وجل : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) أي : نؤخرها .
وأما على قراءة : ( أو ننسها ) فقال عبد الرزاق ، عن قتادة في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) قال : كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء .
وقال ابن جرير : حدثنا سواد بن عبد الله ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : ( أو ننسها ) قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا محمد بن الزبير الحراني ، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله ، عز وجل : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )
قال أبو حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل : ليس هو الحجاج بن أرطاة ، هو شيخ لنا جزري .
وقال عبيد بن عمير : ( أو ننسها ) نرفعها من عندكم .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ : " ما ننسخ من آية أو تنسها " قال : قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرأ : " أو تنسها " . قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال الله ، جل ثناؤه : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] ( واذكر ربك إذا نسيت ) [ الكهف : 24 ] .
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي ، عن آدم ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، به . وقال : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن محمد بن كعب ، وقتادة وعكرمة ، نحو قول سعيد .
وقال الإمام أحمد : أخبرنا يحيى ، حدثنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : علي أقضانا ، وأبي أقرؤنا ، وإنا لندع بعض ما يقول أبي ، وأبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، فلن أدعه لشيء . والله يقول : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها ) .
قال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : أقرؤنا أبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ، وذلك أن أبيا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها )
وقوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) أي : في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( نأت بخير منها ) يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم .
وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية ) فلا نعمل بها ، ( أو ننسأها ) أي : نرجئها عندنا ، نأت بها أو نظيرها .
وقال السدي : ( نأت بخير منها أو مثلها ) يقول : نأت بخير من الذي نسخناه ، أو مثل الذي تركناه .
وقال قتادة : ( نأت بخير منها أو مثلها ) يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
النسخ: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض. فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ، وأنه ما ينسخ من آية { أَوْ نُنْسِهَا } أي: ننسها العباد, فنزيلها من قلوبهم، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } وأنفع لكم { أَوْ مِثْلِهَا } فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.
تفسير البغوي
قوله عز وجل ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما أخبر الله " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر " ( 101 - النحل ) وأنزل ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية .
والنسخ في اللغة شيئان أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ .
والثاني : يكون بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته . فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا وهو المراد من الآية وهذا على وجوه ، أحدها : أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب . وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ( ما ننسخ من آية ) ما نثبت خطها ونبدل حكمها ، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها مثل آية الرجم ، ومنها أن ترفع تلاوته أصلا عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها " وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ، فرفع أكثرها تلاوة وحكما ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه ، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، ومصابرة الواحد العشر في القتال نسخت بمصابرة الاثنين ، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه ، كامتحان النساء . والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار .
أما معنى الآية فقوله ( ما ننسخ من آية ) قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ ، أي : نرفعها ، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان :
أحدهما : أن نجعله كالمنسوخ .
والثاني : أن نجعله نسخة له [ يقال : نسخت الكتاب أي كتبته ، وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له ] ( أو ننسها ) أي ننسها على قلبك .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ، نتركها لا ننسخها ، قال الله تعالى نسوا الله فنسيهم " ( 67 - التوبة ) أي تركوه فتركهم وقيل ( ننسها ) أي : نأمر بتركها ، يقال : أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه ، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه ، والإنساء يكون ناسخا من غير إقامة غيره مقامه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزا أي نؤخرها فلا نبدلها يقال : نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله ، وفي معناه قولان : أحدهما : نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم ، والقول الثاني : قال سعيد بن المسيب وعطاء : أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة ، أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ ولا تنزل .
( نأت بخير منها ) أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم ، لا أن آية خير من آية ؛ لأن كلام الله واحد وكله خير ( أو مثلها ) في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) من النسخ والتبديل ، لفظه استفهام ، ومعناه تقرير ، أي : إنك تعلم .
الإعراب:
(ما) اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم للفعل ننسخ.
(نَنْسَخْ) فعل مضارع مجزوم بالسكون وهو فعل الشرط والفاعل نحن.
(مِنْ آيَةٍ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة من ما والمعنى أي شيء ننسخ من الآيات وقيل متعلقان بمحذوف حال من ما، وقال بعضهم من زائدة وآية تمييز. والجملة ابتدائية.
(أَوْ) حرف عطف.
(نُنْسِها) فعل مضارع معطوف على ننسخ مجزوم مثله وعلامة جزمه حذف الياء. والفاعل تقديره نحن والهاء مفعول به والجملة معطوفة على جملة ننسخ.
(نَأْتِ) فعل مضارع مجزوم بحذف الياء لأنه جواب الشرط والفاعل نحن.
(بِخَيْرٍ) متعلقان بالفعل قبلهما.
(مِنْها) متعلقان باسم التفضيل خير.
(أَوْ مِثْلِها) اسم معطوف على خير وجملة: (نأت) لا محل لها جواب شرط جازم لم تقترن بالفاء أو إذا الفجائية.
(أَلَمْ) الهمزة للاستفهام لم حرف جزم ونفي وقلب.
(تَعْلَمْ) فعل مضارع مجزوم.
(أَنَّ) حرف مشبه بالفعل.
(اللَّهَ) لفظ الجلالة اسمها.
(عَلى كُلِّ) متعلقان بقدير.
(شَيْءٍ) مضاف إليه.
(قَدِيرٌ) خبر أن، وأن وما دخلت عليه سدت مسد مفعولي تعلم. وجملة: (ألم تعلم) استئنافية لا محل لها.